ان عملية البحث في وقتنا الحاضر لم تعد كما كانت عليه في وقت سابق معتمدة على الشخص وقدراته وما إلى ذلك ، بل أصبحت طريقة تحكمها الأسس الموضوعية من لحظة البدء بالتفكير بتنفيذ البحث إلى مرحلة الانتهاء من كتابة تقرير البحث . ولعل السبب في ذلك هو عـِظًم او كِبَر التحدي والتغير الذي يواجهنا في أيامنا هذه ، والذي جلب معه الحاجة لامتلاك المدراء ومتخذي القرار المهارات والمقدرة المناسبة ، حتى يتمكنوا من الاستجابة للضغوطات والظروف التي تواجههم. كذلك تعتبر هذه المعرفة
ضرورية حتى يستطيع الباحث إجراء البحوث في موضوع تخصصه لوحده ، او بالمشاركة مع متخصصين آخرين ، كما يحتاج الباحث كذلك هذه المعرفة لمتابعة التطورات في حقل تخصصه.
ان تلك المعرفة والمهارة اللازمة لإعداد البحوث وتنفيذها هي ما يمكن أن نسميه منهجية البحث العلمي .
وقبل الحديث عن تلك المنهجية والأساليب المتبعة في البحث العلمي ، يجدر بنا أن نقف على جملة من المصطلحات , وهي كالتالي:
العلم - المعرفة – البحث – المنهج /مناهج.
1- المعرفة : المعرفة هي مجموعة من المعاني والمعتقدات والأحكام والمفاهيم والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان نتيجة لمحاولاته المتكررة لمعرفة الظواهر والأشياء التي تحيط وتتصل به .
وفي الحقيقة أن المعرفة أوسع من العلم وأكثر شمولا وابعد نطاقا ، فهي تتضمن معارف علمية وأخرى غير علمية ، أو لا تمت للعلم بصلة .
وللمعرفة ثلاثة أنواع وهي :
- المعرفة بالخبرة
- المعرفة الفلسفية
- المعرفة العلمية
أ- المعرفة بالخبرة / الشائعة / العامة: وهي تعرف بالمعرفة الحسية ، حيث لا تتعدى حدود الإدراك الحسي العادي دون محاولة فهم الظاهرة ، سواء بربطها بغيرها آو التعمق في بحث أسبابها ونتائجها.
وتعتمد هذه المعرفة على ما يتمتع به الفرد من فطنة او بداهة. وعلى ذلك فهي اقرب إلى الانطباعية منها إلى الموضوعية ، وهي تتميز بالنسبية والذاتية.
في المثال الشعبي : "اكبر منك بليلة أكثر منك حيلة".آو "اكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة".
ب- المعرفة الفلسفية : تجاوزت المعرفة الفلسفية حدود الواقع والعالم الطبيعي وارتقت إلى عالم ما بعد الطبيعة لتبحث في الوجود كله . وبذلك فهي تبحث في مسائل أكثر ابتعادا عن الواقع المادي : كوجود الله ، وخلود النفس وغيرها. فالمعرفة الفلسفية تختلف عن المعرفة العلمية – كما سنرى – من حيث المنهج وأسلوب التفكير ، اذ يتعذر الرجوع فيها إلى الواقع وحسمها بالتجربة. كما أن البحث الفلسفي لا يهتم بالجزئيات ، بل يحاول تفسير الأشياء بالرجوع إلى عللها ومبادئها الأولى.
كذلك الفيلسوف يبدأ بحثه من الصفر ، ولا يعتمد على من سبقه ؛ أي انه يتخذ له نقطة بدء جديدة في التفكير بطريقته الذاتية وشخصيته البحتة.
ج- المعرفة العلمية : وتتميز باستخدام أسلوب التفكير الذي اتبع في تحصيله . أي يستخدم الباحث قواعد المنهج العلمي في التعرف على الأشياء، ويقوم على المنهج الاستقرائي ، والذي يعتمد على الملاحظة المنظمة للظواهر، وفرض الفروض ، وإجراء التجارب ، ومحاولة تفسير الظواهر ومعرفة القوانين والنظريات التي تحكمها وتنبؤنا بمستقبلها .
2- العلــــم : قال الإمام أبي حامد الغزالي : "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر سقط في متاهات العمى والضلال". فهذه المقولة مؤداها النظر والبصر يؤدي بنا إلى العلم.
فيعرف العلم بانه (ادراك الشيء لحقيقته) .
وغالبا ما تستخدم كلمة العلم مقابل الجهل والأمية .
-الجهل : هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه. ليس معناه انك لا تعرف ، ولكنك تعرف قضية مناهضة للواقع ومتشبث بها.
-الأمي : هو ذلك الذي لا يعلم فيحتاج إلى الحكم الصحيح ، أي أن الأمي لا يعرف شيئا وله عقل فارغ ، ويكفي أن نقول للأمي الحقيقة فيصدقها .
وتعني كلمة العلم في اوروبا اليوم أنها ):مجموع المعارف المؤيدة بالدلائل الحسية وجملة النواميس التي اكتشفت لتعليل حوادث الطبيعة تعليلا مؤسسا على تلك النواميس الثابتة).
ويذهب جوليان هكسلي بان العلم هو (ذلك النشاط الذي نحصل به على المعرفة لحقائق الظواهر والطبيعة والسيطرة عليها).
3-البحـــــــث: كلمة (بَحَثَ) في القاموس تعني فَتَشَ . فيقال أن العاطل عن العمل يبحث عن وظيفة، او نقرأ ونسمع في وسائل الإعلام أن عملية البحث عن ناجين لا زالت مستمرة بعد غرق سفينة آو دمار زلزال.
كما يوصف البحث بأنه "بحث علمي" فإن كلمة "بحث" تكتسب معنى جديدا . فيتضح بان الهدف من البحث في هذه الحالة هو المعرفة والفهم، كما يتبين من ذلك أيضا أن المنهج الذي سيستخدم في طلب هذه المعرفة آو الفهم هو المنهج العلمي.
تعريف البحث العلمي: هو عبارة عن عملية منظمة في جمع البيانات وتسجيلها وتحليلها لحل مشكلة ما
تعريف اخر: (هو طريقة منظمة وموضوعية في جمع البيانات وتسجيلها وتحليلها لاستخلاص وتطوير المعلومات لتزويدها للمؤسسة او صاحب القرار لاستخدامها في عملية اتخاذ القرار).
تعريف فريمان ولفين 1957 : (البحث العلمي هو الطريقة التي يتبعها الباحث في جمع المعلومات والإجابة عن الأسئلة حول طبيعة الظاهرة التي يريد بحثها).
تعريف بيبت 1983 :(إنه نشاط علمي يهدف إلى اكتشاف المجهول في بناء المعرفة ، والتي هي أساس التطبيق والممارسة).
تعريف اخر: (هو عملية تقصي آو فحص علمي دقيق لطبيعة الظواهر ، وذلك للوصول إلى حقائق او قواعد عامة والتحقق منها).
ومن خلال ماسبق نفهم أن :
- أن البحث العلمي ليس مجرد قراءة كتاب أو نقل معلومات من احد المؤلفات آو المراجع ثم عرضها والإشارة إلى المصدر الذي نقل منه.
- لا يعني البحث كذلك تحرير مؤلف في موضوع من الموضوعات.
- لا يعني البحث العلمي جمع الوقائع ورصد الملاحظات بشكل عشوائي.
4-المنهج : المنهج في اللغة حسب ما جاء في معاجم اللغة العربية :نهج الطريق : أبانه وأوضحه. ونهجه أي سلكه... والمنهج يوجه ، فهو وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة.
أما المنهج في الاصطلاح العلمي: فهو يعني الطريقة التي يصل بها الإنسان إلى الحقيقة بعد الجهد والمشقة ، من خلال قواعد ومبادئ عامة يعمل بها لتوصله إلى النتيجة المطلوبة.
أما أهل المنطق فيستخدمون هذه الكلمة بكثرة ، فهم يحدون المنهج بأنه (فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة إما من اجل الكشف عن الحقيقة حين نكون جاهلين بها أو من اجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين).
وعرف أيضا بأنه: (خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة او البرهنة عليها).
تعريف اخر: (المنهج هو طائفة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم).
إذن المنهج عبارة عن أسلوب منظم ذو مراحل متدرجة تقود إلى الكشف عن حقائق مجهولة من تتبع وفحص الأشياء المعلومة.
هناك ثلاثة مصطلحات منهجية ترد في بحوث الباحثين وهي: النهج، والمنهاج، والمنهج، لكل منها استخداما خاصا يعين في توضيح جانب أساسي هام من تصميم البحوث.
فالنهج لغة الطريق المستقيم الواضح، والمنهاج هو الخطة المرسومة، والمنهج هو الطريق البين إلى الحق في أيسر سبله.
والذي أوقع المؤلفين العرب في عدم الوضوح والخلط في هذه المصطلحات، هو نقلهم مما كتب في هذا الموضوع باللغات الأوروبية، التي ليس فيها إلا مادة لغوية واحدة وهي "Method" التي تكتب بأشكال متقاربة في هذه اللغات على اختلافها، وذلك لأن أصل الكلمة مأخوذ من الكلمة اللاتينية "Methodus"، المأخوذة بدورها عن اليونانية، وقد استعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة، بينما استعملها أرسطو بمعنى بحث.
أما الكلمة في معناها الأصلي فتعني الطريق أو المنهج الذي يؤدي إلى الهدف المقصود، بعد التغلب على عقبات ومصاعب.
ولعدم وجود كلمة أخرى غير كلمة "Method" فقد استعملها علماء المناهج الأوروبيين، لتدل على المنهج وعلى اصطلاحي نهج ومنهاج.
كما استعملوها كذلك بمعنى طريقة للبحث، وبمعنى وسيلة لجمع البيانات ، أيضا كأداة للوسيلة.
هذا ونشير إلى أن لكلمة method معاني اصطلاحية مختلفة، فهي تعني إجراء أو عملية لإحراز شيء أو لتحقيق هدف، كما تعني إجراء نظاميا تقنينيا وبخاصة في البحث العلمي ، أو أسلوبا للاستقصاء يصلح لتخصص أو فن بعينه، وتعنى أيضا خطة نظامية لعرض مادة للتعليم أو التوجيه، كما تعني أيضا فرعا من المعرفة أو الدراسة، يتناول مبادئ وتقنيات التحقيق العلمي، وعلى من يترجم هذه الكلمة إلى اللغة العربية أن ينتقي الكلمات التي تؤدي إلى هذه المعاني المختلفة.
لقد تكونت فكرة المنهج "Method" بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه اليوم ابتداء من القرن "السابع عشر" على يد فرنسيس بيكون "Francis Bacon" " وبورويال وجون ستيوارت ميل، وديكارت، وغيرهم من العلماء القدامى والمعاصرين المرموقين من أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين وألمانيين وغيرهم، وأصبح معنى اصطلاح المنهج "الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بوساطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحديد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة".
هذا والعلم الذي يبحث في الطرق التي يستخدمها الباحثون لدراسة المشكلة والوصول إلى الحقيقة هو "علم المناهج Methodology" ، وأصبح هذا العلم مصطلحا يستخدم في استعمالات شتى متباينة من بينها الإشارة إلى الأساليب التي يستخدمها علم من العلوم في جميع البيانات وفي اكتساب المعرفة.
ومن خلال التعريفات السابقة لمفردات العلم ، البحث ، المنهج يتبن لنا أن منهجية البحث العلمي هي تلك الطرق والأساليب والقواعد والإجراءات التي تحكم عملية البحث العلمي في كل مراحله منذ كان فكرة حتى صار نتائج مدروسة مرتبة ومؤيدة بالحجج والأسانيد.
فوائد ومنافع دراسة علم مناهج البحث:
يمكننا رصد مجموعة من الفوائد نجملها فيما يلي:
1-تساعد دراسة مناهج البحث للطلاب على الاختيار السليم لمشكلة معينة لبحثه وتحديدها، وصياغة فروضها واختيار وتحديد النسب والأساليب لدراستها، والتوصل إلى نتائج يوثق بصحتها. وبعبارة أخرى ، فإن مثل هذه الدراسة تزوده بالمعرفة، والمهارات التي تجعله أكثر قدرة على تصميم خطة بحثه، وحسن تنفيذها وفق منهج البحث العلمي.
2-تزود دراسة مناهج البحث الدارس بالخبرات التي تمكنه من القراءة التحليلية النافذة للبحوث وملخصاتها وتقويم نتائجها، أو الحكم على ما إذا كانت الأساليب المستخدمة في هذه البحوث تدفع إلى الثقة بنتائجها ومعدل الاستفادة منها في مجالات التطبيق والعمل.
3-ويزيد من أهمية هذه الوظيفة أن التقدم العلمي في وقتنا الحاضر جعلنا مستهلكين لنتائج البحوث العلمية في عديد من مجالات حياتنا، إن لم يكن في جميع هذه المجالات، ويؤكد هذا أن دراسة مناهج البحث ضرورة لا غنى عنها للباحثين المشتغلين في مجالات البحث العلمي.
4-ومن ناحية أخرى، فإن الخبرة التي توفرها هذه الدراسة، يحتاج إليها المشتغلون في مهن وأعمال أخرى غير البحث العلمي، فهي ضرورية للعالم والمهندس والطبيب والإداري وغيرهم، تساعدهم على تحقيق فهمٍ أفضل، وتقويم لنتائج بحوثهم العلمية، كما أنها تزيد من قدراتهم على اتخاذ القرارات الحكيمة، إزاء المشكلات والصعوبات التي تواجههم في مجالات عملهم..
وظائف البحث العلمي:
يمكن إيراد وظائف البحث العلمي في ثلاثة عناصر أساسية، وهي :
1-التفسير : فالبحث العلمي يتجاوز وصف الظواهر ، بل يسعى إلى تقديم تفسيرات ملائمة ،اذ أن هدفه هو معرفة الأسباب التي أدت إلى حدوث الظاهرة بالشكل الذي حدث عليه. أي أن التفسير سببي ، أي يحدد الأسباب التي لولاها لما حدثت الظاهرة بالشكل الذي حدثت عليه . والتفسير عملية عقلية أكثر منها عملية حسية ، كما يؤدي التفسير إلى التنبؤ.
2-التنبؤ: وهو التكهن بوقوع أمر ما قبل أن يقع . أو هو نوع من الحكم المسبق بوقوع أمر ما على صورة معينة.
3-الضبط والتحكم : ويعني التحكم أنه أذا ما توافرت عِلّات وقوع الظاهرة ، فإنه من الممكن التحكم في إمكانية ذلك التكرار من عدمه. إلا انه في العلوم الاجتماعية يصعب ذلك ، ومع ذلك فان إمكانية التحكم تتوقف على تحديد مختلف الظروف والعوامل أو المتغيرات التي تؤدي إلى حدوث الظاهرة بالشكل الذي حدث آو المتوقع أن يحدث.
القواعد الواجب مراعاتها عند إجراء البحث العلمي:
• يجب ان يتحلى الباحث بالشجاعة الخلقية ، لأنه قد تواجهه صعوبات مفاجئة أثناء قيامه بذلك.
• ينبغي على الباحث أن يحصل على ثقافة واسعة في ميدان بحثه ، وكذلك ميادين أخرى متصلة بهذا البحث، مع القراءة والفهم بعمق لآراء الآخرين ونقل كلامهم.
• وضوح هدف البحث ، بحيث تكون الغاية من البحث واضحة وجلية . فإذا كان الغرض من البحث غامضا أوغير واضح ومحدد ، تخبط الباحث وأضاع وقته وجهده سدى.
• الموضوعية: فعلى الباحث أن يبتعد عن مشاعره وعواطفه وتحيزاته وميوله ، إذ أن التحيز الناجم عن العاطفة من أهم معوقات البحث العلمي ،فعليه ان يُقبِل على بحثه دون يتقيد بفكرة سابقة.
• ينبغي على الباحث ان يتجرد من الآراء الشائعة والأفكار العامة، ولا يتبنى إلا ما يثبته البحث ، وعليه أن يبدأ قضاياه كما لو كانت رأسه صفحة بيضاء.